غالباً ما تراودني تلك الصورة وأنا أرى بعض الزملاء، أو حتى الطلاب، وهم يتحدثون بحماس بالغ عن تخصصاتهم. إنها صورةٌ لمن يحاول أن يفهم العالم وهو ينظر إليه من نافذة غرفته الصغيرة. مهما اجتهد في الرؤية، ستبقى الصورة لديه ناقصة ومبتسرة، وغالباً ما تأتي استنتاجاته عما يجري خارج غرفته غير مكتملة، إن لم تكن خاطئة. هذا التفكير الضيق، الذي يرى في تخصصٍ واحدٍ مفتاحاً لكل الألغاز، ليس سوى وهمٍ خطير في عالمٍ يزداد تعقيداً وتشابكاً.
في اروقة الجامعات العربية العديدة التي افنيت جل عمري فيها كاستاذ متخصص في الادارة ادركت متاخرا ان الواقع الاجتماعي ليس مجموعة من الجزر المعرفية المنفصلة. بل هو محيطٌ واسعٌ تتلاطم فيه أمواج المعرفة المختلفة، تتفاعل وتتداخل لتُشكّل لوحةً متكاملة لا يمكن فهمها بمعزلٍ عن بعضها البعض. فأن يرجّح عالم الاقتصاد علمه على علم السياسة، أو أن يظن عالم النفس أنه يمتلك وحده مفاتيح السلوك الإنساني، هو كمن يرى جزءاً من الفيل ويُصرّ على أنه الفيل كله.
وهم التخصص المنفرد: أمثلة من الواقع الميداني
العلوم الإنسانية والاجتماعية، على وجه الخصوص، تتشارك هذا المصير. لنفكر في بعض الأمثلة الميدانية التي تعزز حقيقة أن علومنا وتخصصاتنا لا تعمل جيداً بغياب العلوم الأخرى:
إذا نظرنا إلى حي فقير في أي مدينة كبرى، قد يرى الاقتصادي المشكلة في نقص فرص العمل، ضعف الدخل، وغياب الاستثمار. سيقترح حلولاً اقتصادية بحتة كبرامج التدريب المهني أو جذب الاستثمارات.بينما يرى عالم الاجتماع أن الفقر ليس مجرد نقص في المال، بل هو نتيجة لغياب الشبكات الاجتماعية، ضعف رأس المال الثقافي (Cultural Capital)، تدهور المؤسسات الأسرية، وتأثير التمييز البنيوي.أما عالم النفس، فقد يركز على الآثار النفسية للفقر: فقدان الأمل، انخفاض الثقة بالنفس، وتأثير الصدمات المتراكمة.
الحل الفعال لهذه المشكلة لن يأتي إلا بتكامل هذه الرؤى. برامج التدريب الاقتصادي لن تنجح ما لم تُعالج المشكلات الاجتماعية والنفسية التي تُعيق الأفراد عن الاستفادة منها، وما لم يتم فهم الديناميكيات المجتمعية التي تُعيد إنتاج الفقر.
عندما نتحدث عن التحول الرقمي في المؤسسات أو المجتمعات (كما ناقشنا سابقاً)، يميل مهندس البرمجيات أو خبير تكنولوجيا المعلومات إلى رؤية الحلول في المنصات، الأتمتة، والبرمجيات المتطورة. وهذا جزء أساسي بلا شك.
لكن عالم الإدارة يعلم أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي؛ بل يجب أن تتزامن مع تغيير في الهياكل التنظيمية، تبسيط الإجراءات، وتطوير القيادات.
بينما يدرك عالم السلوك التنظيمي أن النجاح الحقيقي مرهون بمدى تقبل الموظفين للتغيير، وقدرة المنظمة على بناء ثقافة عمل مرنة وداعمة، ومعالجة مقاومة التغيير التي تنبع من الخوف والقلق البشري.
فشل أي تحول رقمي غالبًا ما يكون سببه إغفال هذه الأبعاد المعرفية، والتركيز على جانب واحد فقط.
لو نظرنا إلى أزمة الثقة المتزايدة في المؤسسات الحكومية أو الإعلامية، قد يحاول عالم السياسة فهمها من زاوية ضعف الحكم الرشيد أو غياب الديمقراطية.
بينما قد يراها عالم الاتصال مشكلة في بناء السرديات، أو ضعف الحملات الإعلامية.
لكن عالم الاجتماع سيدرك أن هذه الأزمة هي نتاج لتراكم عوامل معقدة: الفساد، غياب العدالة الاجتماعية، ضعف المشاركة المجتمعية، وتغير قيم الولاء والانتماء عبر الأجيال.
الحل لا يكمن في إصلاح سياسي أو إعلامي فقط، بل في فهم عميق للديناميكيات الاجتماعية والنفسية التي تؤثر في بناء وتآكل الثقة.
نحو رؤية شاملة : جسور المعرفة
إن العالم اليوم يفرض علينا أن نتحرر من "نافذة الغرفة الصغيرة" لكل تخصص. الأزمات العالمية المعقدة، من التغير المناخي إلى الأوبئة، ومن التفاوت الاقتصادي إلى الصراعات السياسية، لا يمكن حلها بمنظور واحد. هي تتطلب فكرًا عابرًا للتخصصات (Interdisciplinary Thinking).
دورنا كباحثين وأكاديميين، ليس فقط في تعميق معرفتنا في تخصصاتنا، بل في مد الجسور بينها. أن نُعلِّم طلابنا أن علم الاقتصاد لا يكتمل بدون فهم السلوك البشري، وأن السياسة تتأثر جذريًا بالثقافة، وأن التكنولوجيا لا يمكن أن تنجح بمعزل عن السياق الاجتماعي.
علينا أن نُشجع الحوار المفتوح، والبحث المشترك، والاعتراف بأن كل نافذة، مهما صغرت، تكشف جزءًا من الحقيقة. ولكن الحقيقة الكاملة لا تظهر إلا عندما نفتح كل النوافذ، ونخرج إلى الفضاء الواسع، ونتعاون جميعًا لرؤية الصورة بكل أبعادها. عندها فقط، يمكننا أن نُقدّم حلولًا تتناسب مع تعقيد عالمنا، وتُحدث فرقًا حقيقيًا.تحياتي للجميع.
كالفورنيا ،الجمعة 4-07-2025

Copyright © 2025 Golden Gate Center for Training and Management Consultation - All Rights Reserved.
We use cookies to analyze website traffic and optimize your website experience. By accepting our use of cookies, your data will be aggregated with all other user data.