د• مؤيد السالم
في مراجعاتي المتكررة للمئات من المؤسسات العربية والتمعن في الذي يجري في اروقتها ولقاءاتي المتعددة مع قادة يفترض بهم أن يرسموا ملامح الغد، يترسخ لدي انطباع مؤلم لا زلت اتذمر منه حيث وجدت أغلبهم أسرى اللحظة الراهنة. عيونهم مشدودة إلى كشوف الرواتب، وعقولهم منشغلة بضمان البقاء في الكراسي التي يشغلونها، وقلوبهم تخفق لقلق العائلة ومتطلبات الحياة اليومية. أما الحديث عن "كيف ستكون القيادة في المستقبل؟" فيبدو ترفاً فكرياً أو سؤالاً مؤجلاً إلى حين "استقرار الأوضاع".
هذا الواقع المحزن لا يقتصر على همسات المجالس الخاصة، بل يتجسد بوضوح في ندرة الإنتاج الفكري العربي حول هذا الموضوع الحيوي. بينما تزخر المكتبات الغربية بدراسات وكتب تستشرف مستقبل القيادة في ظل الثورة الرقمية والتحولات العالمية المتسارعة، يظل الرف العربي قاحلاً يكاد يخلو من مؤلفات تحمل عنوان "القيادة في المستقبل" أو "قادة المستقبل".
كيف لنا أن نفسر هذا الصمت المطبق على مستقبل القيادة في عالمنا العربي؟ هل هو انعكاس لثقافة إدارية أسيرة الماضي، تخشى التغيير وتفضل التمسك بما هو مألوف؟ أم هو نتيجة لضغوط آنية تطغى على كل ما عداها، فتحيل التفكير الاستراتيجي بعيد المدى إلى ضرب من ضروب الخيال؟
إن المدير العربي، المثقل بأعباء الحاضر، قد يرى في الحديث عن المستقبل عبثاً أو هروباً من مسؤولياته الآنية. راتبه المتأخر، وميزانية التشغيل الشحيحة، والصراعات الداخلية على النفوذ، كلها قضايا ملحة تستنزف طاقته وتركيزه. كيف له أن يرفع بصره إلى آفاق المستقبل البعيدة وهو يكافح لتسيير الأمور في يومه الحاضر؟
وعلى صعيد الإنتاج الفكري، يبدو أن هناك فجوة مماثلة. قلة من الباحثين والكتاب العرب يتفرغون لاستكشاف هذا المجال الحيوي. ربما يرجع ذلك إلى تركيز البحث الأكاديمي على معالجة المشكلات الإدارية التقليدية، أو إلى تصور بأن هذا النوع من الكتابات لا يلقى رواجاً كبيراً في سوق النشر العربي. وربما يعكس ذلك أيضاً صعوبة التنبؤ بالمستقبل في منطقة تشهد تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية متلاحقة .قبل أيام قرأت مقالا جميلا للأستاذ الدكتور تحسين الشيخلي وكان بعنوان: كيف سيعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الحياة ،اقتبس منه الجملة التالية: " نحن نخطو بثبات نحو مرحلة جديدة من التاريخ البشري، لا يمكن اختزالها في مجرد تطور تكنولوجي أو طفرة اقتصادية، بل هي تحول كلي في نمط الحياة، في إدراك الإنسان لنفسه، وفي العلاقة التي تربطه بالأشياء، بالعمل، وبالزمن ذاته ".واتساءل : اما ان للمدير العربي ان يفكر في مستقبله ومستقبل المؤسسة التي يعمل فيها او يقودها .ففي هذا النمط الجديد من الحياة لن تكون الطرقات كما نعرفها، ولن تقاس المسافات بالزمن ذاته. ستختفي محطات الوقود، وسيصبح تغيير محرك السيارة الكهربائية أسرع من إعداد فنجان قهوة، وستندثر مهن بأكملها كانت تحيط بمحركات الاحتراق الداخلي. وخلال أقل من عقد، شأنا أم أبينا ،سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في غالبية المهام الإدراكية، وسيظهر ذلك أولا في مهن مثل القانون، الطب، المحاسبة، التعليم.
إن هذا الصمت المؤسف يترك فراغاً خطيراً في استعدادنا لمواجهة تحديات المستقبل. كيف لنا أن نعد قادة قادرين على قيادة مؤسساتنا في عالم متغير جذرياً إذا كنا نغفل عن دراسة ملامح هذه القيادة المستقبلية؟ كيف لنا أن نزرع بذور الابتكار والتجديد إذا كانت عقول قادتنا مشدودة إلى الوراء؟
إن التركيز المفرط على الحاضر، والانشغال بهموم الراتب والبقاء الوظيفي، ليسا مجرد أعراض فردية، بل هما مؤشر على خلل بنيوي في طريقة تفكيرنا الإداري. إننا نخاطر بأن نصبح متفرجين على قافلة المستقبل وهي تمر بنا، بينما نحن منغمسون في حل مشكلات الماضي.
إن القيادة الحقيقية لا تقتصر على إدارة الحاضر بكفاءة، بل تتعداه إلى استشراف المستقبل والإعداد له. إنها تتطلب رؤية واضحة لما سيكون عليه عالم الأعمال والمجتمع في الغد، وشجاعة لاتخاذ خطوات جريئة نحو هذا المستقبل.
إن هذا الواقع المحزن يستدعي وقفة تأمل ومراجعة. علينا أن نشجع قادتنا على تخصيص جزء من وقتهم وطاقتهم للتفكير في المستقبل، وأن ندعم الباحثين والكتاب العرب لإنتاج محتوى فكري ثري حول القيادة في الغد. إن مستقبل مؤسساتنا واقتصادنا ومجتمعاتنا يعتمد على قدرتنا على تجاوز ضيق الأفق والانطلاق نحو آفاق أرحب وأكثر إشراقاً. أما الاستمرار في هذا الصمت، فهو بمثابة حكم بالإعدام على طموحاتنا في عالم لا يرحم المتخلفين عن ركب التطور.
الثلاثاء 3-06-2025

Copyright © 2025 Golden Gate Center for Training and Management Consultation - All Rights Reserved.
We use cookies to analyze website traffic and optimize your website experience. By accepting our use of cookies, your data will be aggregated with all other user data.