أصلاح الفساد المستشري

أصلاح الفساد المستشري: معركة متعددة الأوجه تبدأ من القمة والقاعدة معًا

يمثل الفساد المستشري في الأجهزة الحكومية العراقية تحديًا وجوديًا يهدد النسيج الاجتماعي والاقتصادي. هذا الواقع المؤلم يدفعنا للتساؤل: هل يبدأ الإصلاح من أعلى الهرم الحكومي أم من عمق النسيج المجتمعي والعائلي؟ مما يؤسف له ان نجد اغلب الذين يتكلمون بلغة الإصلاح اكثر ميلا الى حصر هذه العملية في الجانب الحكومي متناسين الجانب الاجتماعي وتحديدا دور الاسرة في هذا المجال .إن الإجابة، كما تُظهر التجارب الدولية وأدبيات علم الاجتماع والإدارة، تكمن في نهج متكامل ومتزامن يجمع بين الإرادة السياسية الصارمة والوعي المجتمعي المتنامي.

دور الحكومة: الإرادة السياسية والآليات المؤسسية

لا يمكن لأي جهود إصلاحية أن تحقق نجاحًا ملموسًا ودائمًا دون قيادة حكومية حقيقية وجريئة. في الأنظمة التي نخرها الفساد، غالبًا ما يكون الفساد ليس مجرد ممارسات فردية، بل نظامًا راسخًا تدعمه شبكات مصالح معقدة ومتغلغلة. تفكيك هذه الشبكات يتطلب:

1.إرادة سياسية لا تتزعزع: يجب أن تأتي من أعلى مستويات السلطة، مع التزام بمحاسبة الفاسدين بغض النظر عن مناصبهم أو انتماءاتهم ومعتقداتهم.

2.تفعيل سيادة القانون: الحكومة هي الجهة الوحيدة القادرة على سن وتطبيق قوانين صارمة لمكافحة الفساد، وتعزيز استقلالية القضاء لضمان محاكمة عادلة وفاعلة لكل من يثبت تورطه. هذا يخلق بيئة ردع ضرورية.

3.إصلاحات مؤسسية وهيكلية: يتطلب الأمر بناء مؤسسات حكومية تتسم بالشفافية والمساءلة، وتفعيل آليات المراقبة الداخلية والخارجية. التحول الرقمي للخدمات الحكومية يلعب دورًا حاسمًا في تبسيط الإجراءات، تقليل الاحتكاك البشري، وبالتالي تضييق مساحات الفساد.

4.حماية المبلغين عن الفساد: توفير بيئة آمنة للمواطنين والموظفين للإبلاغ عن حالات الفساد دون خوف من الانتقام، يُعد حجر الزاوية في كشف الممارسات الخفية.

دور العائلة والمجتمع: الأساس القيمي للاستدامة

على الرغم من أهمية الدور الحكومي، فإن أي إصلاح لا يلامس القيم الثقافية والاجتماعية في عمق المجتمع، سيكون هشًا وقابلًا للتراجع. الفساد ليس مشكلة إدارية بحتة؛ بل هو أيضًا انعكاس لتآكل بعض القيم مثل الأمانة، النزاهة، احترام القانون، وتفضيل المصلحة الشخصية أو الفئوية على المصلحة العامة. هنا يأتي دور العائلة والمجتمع:

1.التربية على النزاهة: العائلة هي المدرسة الأولى لغرس القيم الأخلاقية. تربية الأجيال الجديدة على الأمانة، الصدق، احترام القوانين، ورفض المحسوبية والواسطة تُشكل حصانة مستقبلية ضد الفساد.

2.تعزيز الوعي المجتمعي: يجب توعية الأفراد بالمخاطر بعيدة المدى للفساد على مستقبلهم، اقتصادهم، وحتى كرامتهم. عندما يُدرك المجتمع أن الفساد يُفقر الجميع، يصبح أكثر استعدادًا للمطالبة بالإصلاح ورفض ممارساته.

3.دور المجتمع المدني والإعلام: منظمات المجتمع المدني والإعلام الحر والمسؤول تلعب دورًا محوريًا في فضح الفساد، تعزيز الشفافية، وممارسة الضغط على الحكومات، وأيضًا في بناء ثقافة مقاومة الفساد من خلال البرامج التوعوية.

4.تغيير المعايير الاجتماعية: عندما تصبح النزاهة معيارًا أساسيًا للقبول والتقدير الاجتماعي، ويُصبح الفاسد منبوذًا، حينها يبدأ التغيير الثقافي الحقيقي الذي يدعم الإصلاحات الحكومية ويجعلها مستدامة.

نحو إصلاح شامل ومتكامل

لا يمكننا انتظار أن تُصلح الحكومة نفسها بالكامل إذا كانت القيم المجتمعية لا تدعم ذلك، ولا يمكن للمجتمع أن يُحدث تغييرًا جذريًا بدون سلطة القانون وقرارات حازمة من القيادة. إن النجاح في مكافحة الفساد في دولة نخرها الفساد يتطلب:

•تضافر الجهود: عمل متزامن ومستمر من القيادة السياسية، المؤسسات الرسمية، القضاء، العائلة، مؤسسات التعليم، والإعلام.

•بناء الثقة: إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة من خلال تقديم خدمات شفافة وفعالة، وتطبيق القانون بإنصاف.

•الاستدامة: الإصلاح ليس حدثًا، بل هو عملية مستمرة تتطلب التزامًا طويل الأمد ومراقبة دائمة.

إنها معركة شاقة وطويلة، ولكنها ضرورية لبناء مستقبل يليق بالوطن والمواطنين. الفساد ليس قدرًا محتومًا، بل هو تحدٍ يمكن التغلب عليه بالإرادة المشتركة والعمل المتكامل.

الأربعاء 2-07-2025